ينبع جمال العراق، بحق، من جذور ثقافة هذا البلد التأريخية الغنية.
بغداد- ينبع جمال العراق، بحق، من جذور ثقافة هذا البلد التأريخية الغنية. ومع أن العراق يخوض حالياً معركة لاستئصال تنظيم داعش الإرهابي من على أرضه، وأن على بغداد أن تعيش تحت وطأة تفجيرات وهجمات إرهابية متكررة، إلّا أن للعراق، برغم ذلك، أن يفخر بمشهد ثقافي بهي ومعبر ورفيع وهادئ ونابض بالحياة. إنه هذا الحيز من الحياة في العراق الذي يجمع الناس من شتى مناحي الحياة -بصرف النظر عن عمرهم أو عقيدتهم أو لونهم أو عرقهم أو جنسهم- بروح التوحد، روح مفعمة بالحياة تربطهم ببعضهم ليتذوقوا السلام والفرح والراحة والسكينة التي يغمر الفن بها مخيلة الإنسان. وقد جسد معرض "الفن للسلام" في بغداد والذي نظمته بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بمشاركة لجنة المصالحة الوطنية في رئاسة الوزراء، جسد هذا المفهوم خير تجسيد.
وعرض في المعرض، الذي أقيم في باحة المركز الثقافي البغدادي الواقع في قلب شارع المتنبي –وهو من اقدم وأشهر الشوارع في بغداد والذي يشار إليه بشعور من المودّة بوصفه جوهرة أدبية تأريخية تزيّن المدينة- عرض فيه ما يزيد على 70 لوحةً ورسماً كاريكاتيرياً وصورةً فوتغرافيةً من نتاج فنانين عراقيين. وبينما استخدم كل فنان أداة تعبير مختلفة، إلّا أن الشئ الذي كان يوحدها هو أن كل عمل فني بسيط ومثير للإعجاب عبّر عن الأمل بأن يعم السلام بين كافة العراقيين، وعن توق للسلام والمصالحة في المستقبل من أجل بناء عالم حر ومزدهر للأجيال القادمة. وقد أُوكِل إلى الرسامين والمصورين ورسامي الكاريكاتير الذين شاركوا في مشروع الفن للسلام –وهو الأول من نوعه- أن يقدموا أعمالاً تجسد رسالتهم الداعية إلى التعايش السلمي والألفة وتجسد المصالحة والأمل.
لقد مثل المعرض بحد ذاته وعلى نحو جلي قدرة الصمود لدى العراقيين الذين يكابدون صراعاً مريراً مع تنظيم داعش الإرهابي الذي يلفظ انفاسه الأخيرة في الموصل، وموجة تفجيرات إرهابية تستهدف، عن عمد، المدنيين في بغداد وفي أماكن اخرى. ويبين المعرض أنه وعلى الرغم من القتال الدائر في العراق، يبقى الفن هو اللغة التي تجمع أبناء الشعب في سلام ووفاق. كما أنه يقوم بدور مناهض لتدمير داعش للمواقع التأريخية والأعمال الفنية في المناطق التي خضعت لسيطرة التنظيم.
وخلال المعرض، أكد نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية والانتخابية السيد جورجي بوستين، أكد على أهمية الفن في نشر رسائل السلام والمصالحة والتسامح والتعايش قائلاً: "إن هذه المساعي التي يقوم بها فنانون ورسامو كاريكاتير ورسامون ومصورون فوتوغرافيون عراقيون موهوبون تسمو على الاختلافات العرقية والطائفية وتشكل حجر الأساس لمصالحة وطنية جامعة من شأنها أن تؤدي الى الاستقرار والرخاء لكل العراقيين."
ويقضي رائد حسن، وهو رسام كاريكاتير عراقي شاب، وقته في رسم صور واقعية ومؤثرة لكنها تحمل رسائل واضحة. ويسترسل في حديثه ليبين أن كل ما يبغيه هو "عراق ينعم بالسلام، لاسيما من اجل مستقبل اطفاله". وأشار السيد رائد حسن الى واحدة من صوره يظهر فيها طابور طويل من الأشخاص، وإن كان معظمهم من الرجال، بدا عليهم اليأس، وتظهر محقنة نقشت عليها كلمة "السلام" ناتئة من داخل رأس أول شخص في الطابور. ويبدي السيد رائد حسن تعلقاً كبيراً بهذا العمل، وبسؤاله عن السبب، يقول ببساطة: "دقق في الكاريكاتير بعناية وشاهد بساطة فكرته– كل ما نحتاجه في العراق هو أن يحقن الجميع فكرة السلام في عقولهم ليتخلصوا من جميع الشرور والمفاهيم المؤذية، وبهذا نطهّر عقولنا وقلوبنا، ونتيح’للسلام’ أن يتغلغل في كل عرق وعظم في أجسادنا". ويضيف متساءلاً: "ما الذي يمكن أن يكون أبلغ من ذلك؟"
وبينما انحسرت غيوم الشتاء عن سماء صافية زرقاء مشمسة، تداخلت الالوان بسلاسة على اللوحات الزيتية في المعرض تحت دفء أشعة الشمس. وقف محمد مسيِّر بصبر بجانب رسوماته، والتي تصور العديد منها أفكاره بشأن المصالحة بين كافة العراقيين. وصورت إحدى لوحاته البارزة تسامح الاديان، ويقول عنها محمد "إن الإيمان ليس له وجه، ولذا فإن السيدة في لوحتي ليس لها وجه. فيمكن ان تمثل الإسلام من خلال العباءة التي تتزين بها، ويمكن أن تروي لنا قصة المسيحية من خلال الصليب المقدس المرسوم على وجهها. وفي الخلفية، هناك أماكن عبادة لكلا الديانتين– مفتوحة ومُرحِّبة بكل من يختار الوحدة والعيش بسلام وكرامة وانسجام".
وبينما يعبر السيد محمد مسيِّر عن آماله بالتعايش السلمي في العراق، فإن أفكاره هي بمثابة تذكير بأن الانخراط في الحوار وخلق الوعي وتعزيز التسامح وقبول الآخر بين أشخاص من أديان ومعتقدات وثقافات مختلفة هي خطوات هامة نحو بناء مجتمع ينعم بالأمل والسلام في العراق وكل انحاء العالم.
وبعد بغداد، سيقوم معرض "الفن للسلام" المتنقل طيلة شهري آذار ونيسان 2017 بجولة تشمل المحافظات العراقية التالية: بابل وكربلاء وذي قار وميسان والبصرة وديالى وصلاح الدين وأربيل.