مقالة رأي للمنسق المقيم للأمم المتحدة في العراق، غلام محمد إسحق زي: "الماء روح الأرض": فرصة العراق للريادة في أمن المياه الإقليمي
نائب الممثل الخاص للأمين العام، المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في العراق غلام إسحق زى
20 نيسان/أبريل 2025
من الكائنات الدقيقة في قطرة الماء الواحدة إلى النُظم البيئية التي تمتدّ عبر أحواض الأنهار، لا يمكن إنكار الدور الحيويّ للماء في دعم الحياة. ويجسّد المثل العربي "الماءُ روحُ الأرض" هذه الحقيقة. لقد بات نهرا دجلة والفرات، اللذان شكّلا أساس الحضارات القديمة، يواجهان اليوم إجهاداً مائياً شديداً يهدّد مستقبل العراق الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. وقد حذّرتْ وزارةُ الموارد المائية العراقية من أن النهرين قد يجفّان بحلول عام 2040 إن لم تُتخذ إجراءاتٌ عاجلة.
وإدراكاً لهذه المخاطر، اتّخذت حكومةُ العراق خطوةً تاريخية في عام 2023 بانضمامها إلى اتفاقية الأمم المتحدة للمياه، لتكون أولَ دولةٍ عربيةٍ تقوم بذلك. غير أن الانضمام لا يمثل سوى البداية. وإذ يواصل العراق مسيرته ضمن مشهدٍ مؤسّسيّ وبيئي وإقليمي معقّد، يكمُن الاختبار الحقيقيّ في تحويل الالتزام إلى تنفيذٍ منسّقٍ وفعّال.
منذ انطلاق عملية الانضمام في عام 2014، خطا العراق خطواتٍ مشهودةً نحو تحقيق أهداف الاتفاقية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. وقد تمّ تأسيسُ لجنةٍ وطنيةٍ مشتركةٍ بين الوزارات برئاسة وكيل وزارة الموارد المائية، لتضطلعَ بدورٍ محوريّ في تعزيز التنسيق بين القطاعات وتوجيه جهود التنفيذ. ومن خلال هذا المسار، أطلق العراق "الحوار الوطني حول المياه"، جامعاً بين الحكومة والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والشركاء الدوليين بهدف تعزيز الاتساق في السياسات وإصلاح قطاع المياه. وقد أسفر هذا عن اتفاق توأمةٍ مع كازاخستان لتبادل الخبرات الممتدة لعقودٍ في مجال التعاون على المياه العابرة للحدود.
من جانبنا، فقد قدّمت الأممُ المتحدة، بما في ذلك الفاو، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأغذية العالمي، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا (UNECE) الدعم للجهود الوطنية من خلال تعزيز القدرات المؤسسية، وتوفير التدريب المستهدف والمساعدة الفنية، وإدخال تقنيات ريّ فعّالة. كما عملنا على تحسين إنتاجية المياه، وإعادة تأهيل البُنى التحتية للحد من الفاقد والملوحة، وساهمنا في تعزيز الأمن الغذائي ودعم سُبل العيش في المناطق الريفية لتكون أكثر صموداً. ومع إدراكنا لحجم التحديات المقبلة، فإننا ملتزمون بمواصلة العمل الوثيق مع السلطات العراقية لمعالجة شح المياه على مستوى البلاد.
وعلى الرغم من أن الأساس متين، لا يزال العراق يواجه تحديات متعددة الأبعاد يجب معالجتها لضمان التنفيذ الكامل للاتفاقية وتحقيق حوكمة مستدامة للمياه. إذ أن فعالية التنسيق المؤسسي يُضعفها تداخل الصلاحيات وقلة التكامل بين السلطات الاتحادية والأقاليمية والمحلية، مما يُعيق اتخاذ قرارات موحّدة، في الوقت الذي يواجه فيه العراق أيضاً فجواتٍ في الخبرات الفنية والقانونية اللازمة للعمل الفعّال مع دول المنبع. وهناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى تحديث القوانين المائية المحلية لتتوافق مع الأُطر الدولية وتُسهم في حل النزاعات الداخلية. وفي الوقت ذاته، تُسهم التحديات البيئية مثل زيادة الملوحة والتلوث وسوء استخدام تقنيات الري في تدهور جودة المياه وإمداداتها، لا سيما في المناطق الجنوبية. ويظل العراق معتمداً بشكل ٍكبيرٍ على تدفقات المياه من حوض دجلة والفرات عبر ترتيبات ثنائية مع تركيا وإيران وسوريا. غير أن غياب اتفاقاتٍ شاملةٍ ومُلزِمةٍ – والاعتماد بدلاً من ذلك على بروتوكولاتٍ ومذكّرات تفاهمٍ ضعيفة التنفيذ – يؤكد الحاجة الملحّة إلى إصلاحاتٍ هيكلية، وتعزيز الحوار الإقليمي، وتوفير دعمٍ فنيّ وماليّ مستدام.
دعوة إلى العمل: تعزيز أمن العراق المائي
ينبغي أن يتكيّف قطاع المياه في العراق بشكلٍ عاجلٍ مع ارتفاع درجات الحرارة، والجفاف، والندرة المائية، من خلال تحرّكٍ سريعٍ ومنسّق. ويُعدّ التزام العراق باتفاقية الأمم المتحدة للمياه وتعاونه الدولي دليلاً على جدّيته في ضمان أمنه المائي. ولدعم هذا التحول، ينبغي أن تتركّزَ الجهودُ العراقيةُ والدوليةُ على ثلاثِ أولوياتٍ رئيسية:
- تعزيز القدرات المؤسسية: تعزيز التنسيق بين الوزارات عبر الحوار الوطني حول المياه من خلال إنشاء آلية تنسيقٍ رسميةٍ ذات أدوارٍ واضحة، واجتماعاتٍ منتظمة، ومساءلةٍ مشتركة بين الوزارات. كما يجب الاستثمار في أنظمةٍ حديثةٍ لجمع البيانات ورصد الموارد المائية لتحسين اتخاذ القرارات وبناء قدرات الإنذار المبكر. ويمكن الاستفادة من أدوات وأُطر اتفاقية الأمم المتحدة للمياه لتطوير سياساتٍ قائمةٍ على الأدلّة، وتوحيد المعايير، والوصول إلى الخبرات الفنية وبرامج بناء القدرات. وستساعد هذه الخطوات في إرساء إدارةٍ متكاملة للموارد المائية وتعزيز قدرة العراق على التفاوض وتنفيذ الاتفاقات المتعلقة بالمياه العابرة للحدود.
- ترسيخ القانون الدولي للمياه: تعزيز انخراط العراق في دبلوماسية المياه الإقليمية من خلال إطلاق حوارٍ منظم مع دول الحوض (تركيا، إيران، سوريا) استناداً إلى مبادئ القانون الدولي للمياه، بما في ذلك الاستخدام المنصف والمعقول، وعدم التسبب بضررٍ جسيم. ويمكن الاستفادة من منصاتٍ محايدةٍ وموثوقة – مثل اللجنة الاقتصادية لأوروبا واتفاقية المياه التابعة لها – لتيسير بناء الثقة والتعاون الفني. كما ينبغي الدعوةُ إلى إنشاءِ هيئةٍ إقليميةٍ أو لجنةٍ مشتركةٍ لتنسيق شؤون المياه. ويمكن استلهام الدروس من أُطر ناجحةٍ مثل اتفاقية حوض نهر سافا ومبادرة حوض النيل، بما في ذلك بروتوكولات تبادل البيانات، وآليات الرصد المشترك، وأُطر التعاون الملزمة قانوناً.
- الاستثمار في إدارةٍ مائيةٍ مستدامةٍ ومتكيفة مع تغير المناخ: ينبغي للعراق توسيع استخدام أنظمة الري الحديثة مثل الري بالتنقيط والرش لتحسين الكفاءة وتقليل الفاقد. كما أن التوسع في حصاد مياه الأمطار وإعادة استخدام مياه الصرف المعالَجة، خاصة لأغراض الزراعة والصناعة، سيساعد في تنويع مصادر المياه. وسيساهم تعزيز الزراعة الذكية مناخياً – عبر المحاصيل المقاومة للجفاف والممارسات المستدامة في استخدام الأراضي – في تعزيز القدرة على التكيّف، وذلك بالاستفادة من نماذج ناجحة إقليمياً. كما أن تمكين جمعيات مستخدمي المياه من خلال التدريب والدعم القانوني يمكن أن يحسّن الحوكمة المحلية وتوزيع المياه. وأخيراً، فإن الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر والبيانات الهيدرومناخية سيساعد على تحسين التنبؤ بالمخاطر والتخطيط والاستجابة للجفاف والفيضانات.
وباعتباره أولَ دولةٍ في الشرق الأوسط تنضمّ إلى اتفاقية المياه، فإن العراق – وبدعمٍ من قيادةٍ وطنيةٍ قوية ودعمٍ متواصلٍ من الأمم المتحدة وشركاء التنمية – يتمتع بفرصةٍ فريدة ليقدّم نموذجاً يُحتذى به ويضطلع بدورٍ رياديّ في تعزيز التعاون الإقليمي في مجال حوكمة المياه وتبادل المعارف.
صاحب الخطاب
