إحاطة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق السيدة جينين هينيس-بلاسخارت
سيدتي الرئيسة،
السيدات والسادة أعضاء مجلس الأمن الموقرون،
سبق أن أشرت خلال الأشهر الماضية بصفة مستمرة إلى الأعمال العاجلة غير المنجزة على الصعيد المحلي في العراق، واليوم ربما يبدو من المحتم عليّ أن أقدم لكم إحاطة بشأن المظاهرات والاضطرابات المدنية الجارية.
لقد تولت قيادة المظاهرات في البداية فئة الشباب على وجه الخصوص، معبرة عن مشاعر الإحباط من ضعف الآفاق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمامها، وعن آمالها الكبيرة في تحقيق غدٍ أفضل، بعيداً عن الفساد والمصالح الحزبية وبعيداً عن التدخلات الأجنبية.
وخرج مئات الآلاف من العراقيين -على اختلاف مشاربهم- للتظاهر انطلاقاً من حبهم لوطنهم، مؤكدين على هويتهم الوطنية، وكل ما طالبوا به هو بلد يسخر كامل إمكانياته لمصلحة العراقيين كافةً.
لكنهم يدفعون ثمناً لا يمكن تصوره في سعيهم لإسماع صوتهم، فمنذ مطلع تشرين الأول الماضي سقط ما يزيد عن 400 قتيل وأكثر من 19000 جريح.
وإذ نستذكر الذين سقطوا ونعرب عن إجلالنا لهم، فإن مُثُلهم العليا ومطالبهم لاتزال اليوم مفعمةً بالحياة أكثر من أي وقت مضى.
وقد أخبرني أحد المتظاهرين قائلا بكل وضوح:
"إما أن نحيا بكرامة وحرية أو لا نحيا، وذلك هو جوهر التظاهرات".
لقد زرت الأسبوع الماضي مستشفى في بغداد، والتقيت هناك بفتى يبلغ السادسة عشر من عمره وقد أصيب إصابة بالغة بشظية، وقالت لي أمه: "إن الافتقار إلى أي أمل يدخل اليأس إلى نفوس شبابنا في مرحلة المراهقة، وذلك يجعلهم يفكرون ويتصرفون كما يفعل من يبلغ على الأقل ضعف سنهم".
إن عمر ابنها لا يتجاوز الستة عشر عاماً، بيد أن هذا زمن طويل جداً إذا كان المرء بانتظار أن يفي القادة السياسيون بوعودهم.
ليست لدى هؤلاء الشباب أية ذكريات عن مدى الرعب الذي عاشه الكثير من العراقيين في عهد صدام حسين، إلّا أنهم يدركون تمام الإدراك الحياة التي وُعدوا بها بعد عهده. إنهم، ومن خلال القدرة على التواصل، يعلمون تماماً أن تحقيق مستقبل أفضل أمر ممكن.
إني غالباً ما أقول بأن الحكم على الوضع الراهن لا يمكن أن يتم من غير وضعه في سياق ماضي العراق، بيد أن ما نشهده هو تراكم للإحباط بسبب عدم إحراز تقدم على مدى سنوات عديدة.
وبعد سنوات -بل وعقود- من الصراعات والنزاعات الطائفية، يترسخ شعور جديد بالوطنية، يجسده ذلك الفتى ذي الستة عشر عاما الذي التقيته في المستشفى، فضلاً عن عدد لا يحصى من اخوانه وأخواته الذين يتظاهرون في العراق فيما تصفه بعض الشخصيات العراقية المعروفة ب"معركة أمة".
ودعوني أشدد على أن أية أمة ناجحة هي بحاجة إلى أن تحتضن بدفء إمكانيات شبابها، وتزداد أهمية هذا الأمر في العراق الذي يشكل الشباب نسبة كبيرة من سكانه.
سيدتي الرئيسة،
لقد خرجت الأحداث عن السيطرة منذ الليلة الأولى للمظاهرات بلجوء السلطات على الفور إلى القوة المفرطة.
إن سقوط القتلى وإصابة الجرحى بأعداد كبيرة وممارسة العنف - بالإضافة إلى إخلاف الوعود لمدة طويلة- عوامل أدت جميعها إلى حدوث أزمة ثقة.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة لحُزَمِ إصلاح مختلفة تعالج قضايا مثل الإسكان والبطالة والدعم المالي والتعليم، إلا أن تلك الإصلاحات ينظر إليها غالباً على أنها غير واقعية أو "ضئيلة جداً وفي وقت متأخر جدا".
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التحقيق الذي أجرته الحكومة في أعمال العنف التي وقعت في مطلع شهر تشرين الأول يعتبر غير مكتمل؛ فمن الذي يقوم بتحطيم القنوات الإعلامية؟ ومن الذي يطلق النار على المتظاهرين السلميين؟ ومن الذي يختطف النشطاء المدنيين؟ ومن هم هؤلاء الرجال الملثمون؟ والقناصة المجهولون؟ والجهات المسلحة غير المعروفة؟
أعلم يقيناً بإن عدداً من مذكرات الإعتقال قد صدرت، ولكني أود أن أؤكد على أنه يجب أن يحاسب الجناة محاسبة كاملة.
والآن سيدتي الرئيسة، لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى من بين المتظاهرين السلميين؛ ولكن ذلك هو ما قمنا بتوثيقه بدقة منذ الأول من تشرين الأول.
لقد تمت مراجعة قواعد الاشتباك للتقليل إلى أدنى حدّ من استخدام القوة المميتة، وفي واقع الأمر شهدنا قدراً أكبر من ضبط النفس عند بداية الموجة الثانية من التظاهرات، لاسيما في بغداد.
ولكن الواقع المرير هو أن إطلاق النار بالذخيرة الحية لم يتوقف بعد، وأن الأسلحة غير المميتة، مثل قنابل الغاز المسيل للدموع، لا تزال تستخدم بطريقة غير سليمة مما يتسبب في إصابات مروعة أو الوفاة. كذلك، لا تزال هناك حالات اعتقال واحتجاز تتم بشكل غير قانوني مثلما تحدث أيضا حالات اختطاف وتهديد وترويع. وكمثال على ذلك، الأحداث التي جرت مؤخراً في الناصرية والنجف.
لذلك، أرغب أن أؤكد مجدداً على أهمية ضمان الحقوق الأساسية؛ وعلى رأسها الحق في الحياة، ليس ذلك فحسب بل الحق أيضا في التجمع السلمي وحرية التعبير. بالإضافة إلى ذلك، أرغب (مرة أخرى) في التأكيد على الأهمية القصوى لتحقيق المساءلة التامة والعدالة على جميع المستويات.
وثمة نقطة مهمة أخرى نشير إليها: وهي أن إغلاق وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي والإنترنيت يعزز تصورات الرأي العام بأن لدى السلطات شيْا ما تريد إخفاءه؛ لأن التصدي لخطاب الكراهية لا يعني الحدّ من حرية التعبير أو حظرها.
وثمة أمر آخر، سيدتي الرئيسة، يشكل مصدر قلق كبير، وهو الانتهاكات المنسوبة الى نفوذ القوى المحركة، في مُحاولة لاختطاف التظاهرات السلمية.
إن أعمال العنف ذات الدوافع السياسية أو التي تقف خلفها عصابات أو الناجمة عن ولاءات خارجية تهدد بوضع العراق على مسار خطير، وتزرع الفوضى والتخبط، بما في ذلك فقدان مزيد من الأرواح وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
وهذا بدوره يقوض بشكل جسيم المطالب المشروعة للشعب العراقي، ويضع التعقيدات أمام عمل القوات الأمنية، كما يوفر ذريعة واهية للتقاعس السياسي، أو الأسوأ من ذلك: إيجاد عذر لجميع أنواع المؤامرات لتبرير الحملات العنيفة لقمع التظاهرات السلمية.
ولكي نكون واضحين تماما: فإن الغالبية العظمى من المتظاهرين سلميون بشكل واضح؛ ففي كل يوم يسعى الرجال والنساء إلى حياة أفضل. ودعوني أؤكد هذه النقطة: إن المسؤولية الأساسية للدولة هي حماية شعبها.
وبمعنى آخر: فإن أي شكل وكلّ شكل من أشكال العنف غير مقبول على الإطلاق، ويجب ألا يصرف الأنظار عن المطالب المشروعة للإصلاح، لأن ذلك من شأنه أن يعرض الدولة لمزيد الخطر.
ولن يحقق شيئا سوى إلحاق الضرر بثقة الناس التي تضاءلت فعليا بشكل كبير – ما يضعف أكثر قدرة الحكومة على الإصلاح؛ وهذه القدرة تضعف أكثر وأكثر في كل مرة يتعرض فيها متظاهر سلمي للقتل أو للإصابة.
سيدتي الرئيسة،
ان من المؤكد أن ثقل ماضي العراق وجسامة القضايا الراهنة يشكلان تحدياً لقدرة أي حكومة على العمل، والعمل بسرعة.
ومع ذلك، فأوجه القصور قائمة منذ وقت طويل وهي حقيقية بشكل مؤلم. وسأعطيكم فقط بعض الأمثلة:
انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية: فالدعوة الى إجراء إصلاحات انتخابية يتردد صداها في جميع أنحاء العراق. ويطالب العراقيون بإدارة انتخابات تتسم بالاستقلالية وعدم الانحياز وإحداث تغيير في النظام الانتخابي، بما يجعل الناخبين أقرب الى مرشحيهم وإخضاع ممثليهم المنتخبين للمساءلة على النحو الواجب.
ثانياً، الفساد المستشري: سمعنا كثيراً من الكلام والمبادرات، إلا أننا شهدنا قليلاً من النتائج الملموسة. وينبغي على الطبقة السياسية ان تكون القدوة، على سبيل المثال في الإفصاح عن ممتلكاتها بشكل علني وإلغاء ما يسمى بـ "مكاتبها الاقتصادية".
ولا يسعني إلا أن أؤكد على أن جهود مكافحة الفساد في العراق ستكون عنصراً أساسياً في تحقيق انفراج اجتماعي واقتصادي وسياسي هائل. فمن دون تحقيق تقدم ملموس في هذا المجال، فإننا سنخاطر بأن نبقى دون تقدم في كل جبهة تقريباً.
إن أحد مطالب المتظاهرين الرئيسة ذات الصلة تتمثل في إيجاد بيئة مواتية تفضي إلى التوظيف والنمو. وفي الوقت الذي يمثل فيه هذا المطلب أحد أفضل الحلول للاضطرابات والنزاعات، إلا أن ما شهدنا تنفيذه ليس إلا النزر اليسير.
سيدتي الرئيسة، قبل قرابة ثلاثة أسابيع، وبعد مشاورات مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من العراقيين، ومن ضمنهم المتظاهرون والسلطات العراقية، اقترحنا عدداً من الخطوات باعتبارها طريقاً إلى الأمام. وهناك المزيد من المبادرات الجارية حاليا أو التي يجري العمل على إعدادها والرامية الى تعزيز الحوار.
ولكن من أجل إنجاح هذا الحوار، فإن شروط المتظاهرين واضحة في هذا الصدد، وهي وضع حد لإراقة الدماء وعمليات الاختطاف والاعتقالات غير القانونية.
ويجب أن يكون مفهوماً أيضاً أنه دون المساءلة والعدالة الكاملتين – فربما سيكون من المستحيل إقناع الناس بأن القادة السياسيين يرغبون بصدق في العمل على اجراء إصلاحات جوهرية.
ورغم أنني أسلم بأن حركة المتظاهرين الجماعية لا تعترف بالضرورة بقيادة مركزية، إلا أن إيجاد هيكلية معينة وتنسيق من جانب المتظاهرين السلميين سيكون في غاية الأهمية كذلك.
سيدتي الرئيسة،
لقد قبل مجلس النواب استقالة رئيس الوزراء يوم الأحد الماضي. واليوم، طلب رئيس مجلس النواب من رئيس الجمهورية ان يكلف رئيساً جديداً لمجلس الوزراء – وسيكون لديه 15 يوماً للقيام بذلك. وبدوره، سيكون لدى رئيس الوزراء المكلف 30 يوماً لتشكيل حكومته.
وبينما يجري القادة السياسيون حالياً حوارات بشأن رئيس الوزراء المكلف، أود ان أشدد على الأهمية البالغة للظروف الراهنة. وأنه ليس أمام القادة السياسيين متسع من الوقت ويجب عليهم ان يرقوا إلى مستوى تحديات هذه اللحظة.
وعلاوةً على ذلك، ينبغي عليهم أن يصارحوا الجماهير وأن يأتوا بحلول حقيقية بدلاً من ترك تلك المهمة على عاتق رئيس الوزراء مع تقديم قليل من الدعم أو دون تقديم أي دعم على الإطلاق. ولطالما أكدت على أن الحكومة لا يمكنها المضي بمفردها، فالمسؤولية مشتركة للطبقة السياسية برمتها.
اسمحي لي سيدتي الرئيسة، أن انتقل بإيجاز إلى العلاقات بين اربيل وبغداد. وهو ملف آخر بالغ الأهمية. كما قلت في إحاطات سابقة، فإن العلاقات بالتأكيد في تحسن ملحوظ، ولكن يجب أن أؤكد على أنه ولحد الآن لم يتجسد ذلك في إحراز تقدم حقيقي على أرض الواقع.
وفي سنجار، ما زلنا نواجه قيودا كبيرة في مجال عملنا الإنساني. أربيل وبغداد ملزمتان بتشكيل إدارة واحدة وهياكل أمنية مستقرة. إن استمرار فشلهما في التوصل إلى اتفاق لم يعد من الممكن تفسيره أو التسامح معه.
ومن المسائل المقلقة الأخرى الوضع في محافظة دهوك حيث وصل أكثر من 16000 لاجئ سوري حتى الآن، ولا يزال المزيد منهم يصلون بصورة يومية. فبعد تسع سنوات من النزاع في سوريا، لم نتوقع فتح مخيمات جديدة للاجئين في العراق. ودعونا ألا ننسى أن هذا العدد يضاف إلى ربع مليون سوري تتم استضافتهم بالفعل في المنطقة الكردية.
والآن، وبينما تهيمن المظاهرات على اهتمامنا، يجب ألا ننسى إرث قتال الأمس ضد تنظيم داعش. فبينما نتحدث الآن، هناك كارثة جديدة في طور النشأة. وفي مناسبات عديدة، ذكرت أن الوضع في المخيمات (مثل مخيم الهول) غير قابل للاستمرار. إن التهديدات العابرة للحدود تتطلب القيام بفعل جماعي، ولكن نرى عوضا عن ذلك انعداما صادما للتفكير الدولي على المدى البعيد.
سيدتي الرئيسة، أود أن انتقل مرة أخرى إلى ملف المفقودين الكويتيين، ورعايا الدول الأخرى والممتلكات الكويتية المفقودة بما في ذلك الأرشيف الوطني.
فعلى الرغم من الأزمة الداخلية، يسعدني إبلاغكم بأنه وفي 27 تشرين أول، سلم العراق نحو 200000 كتاب تعود ملكيتها الى مكتبة الكويت الوطنية وجامعة الكويت.
كما أود أن أشيد بالعمل الشاق الذي قام به خبراء الطب الشرعي الكويتيون، في العملية المستمرة لتحديد الرفات البشرية التي عثر عليها في وقت سابق من هذا العام في صحراء السماوة. آمل حقا أن يتم الانتهاء من هذه الجهود قريبا مما يقدم بعض العزاء لأقارب المفقودين.
وكلمة أخيرة، سيدتي الرئيسة، حول الاحتجاجات المستمرة في العراق. إن البلاد تقف أمام مفترق طرق.
في لقائي مع سماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني، أبدى القلق من ان لا تكون لدى الجهات المعنية جدية كافية لتنفيذ أي إصلاح حقيقي. وأضاف بأنه "لا يمكن أن يستمر الحال على ما كان عليه قبل الاحتجاجات".
وهذا صحيح تماماً.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن المتظاهرين مصممون على الاستمرار ما دامت مطالبهم لم تتحقق.
إنه لا يمكن حل الوضع عن طريق كسب الوقت من خلال اللجوء إلى حلول ترقيعية أو فرض تدابير قسرية: إن هذا النهج سوف لن يؤدي إلا إلى تأجيج الغضب الشعبي وانعدام الثقة.
السعي وراء المصالح الحزبية والتدخل أو قمع المتظاهرين السلميين بصورة وحشية: هذه ليست استراتيجيات على الاطلاق. وليس هناك ما هو أكثر ضرراً من مناخ الغضب والخوف. يجب ألا ندع التاريخ يعيد نفسه.
في أي أزمة، يمكن أن تظهر فرص جديدة وعظيمة، والعراق ليس قضية خاسرة بل هو بعيد عن ذلك فلديه امكانيات هائلة.
إن التحدي يكمن في اغتنام هذه الفرصة لبناء عراق يتمتع بالسيادة والاستقرار وشمول الجميع والازدهار. لقد حان الوقت للعمل. إن الآمال الكبيرة لكثير من العراقيين تحتاج إلى تفكير جريء ومتطلع إلى الأمام.
شكرا جزيلا