إقليم كردستان العراق: الوحدة والدستور | كلمة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة السيدة جينين هينيس-بلاسخارت
اسمحوا لي أن أبدأ بتوجيه الشكر إلى جامعة كردستان على دعوتي للمشاركة في حدث هذا اليوم. إنه لشرف عظيم لي ويسعدني أن أكون هنا.
جامعة كردستان - الأربعاء 19 أيار 2021
أصحاب المعالي،
أيها السيّدات والسادة"
الضيوف الكرام،
اسمحوا لي أن أبدأ بتوجيه الشكر إلى جامعة كردستان على دعوتي للمشاركة في حدث هذا اليوم. إنه لشرف عظيم لي ويسعدني أن أكون هنا.
إذا سمحتم لي، سأتحدث اليوم بصراحة، والهدف من وراء تعليقاتي هو أن تكون مثيرة للتحدي ومثيرة للتفكير في ذات الوقت كي نتمكن من بذل المحاولات- بإخلاص وبشكل بناّء - لمعالجة بعض المشكلات والمخاوف العامة.
بعبارة أخرى: قد يعتبر بعضكم وجهات نظري صريحة للغاية وربما بشكل مفرط. لكن كما يقول المثل الكردي "صديقك هو الذي يجعلك تبكي.. “
ودعونا نواجه الأمر، في حواراتي العديدة في إقليم كوردستان، الآراء المعبر عنها بشكل عام صريحة للغاية - سواء أحببتها أم لا. وفي ذات الوقت، هذه هي أحد الأشياء التي أقدرها كثيرًا. نتبادل الآراء ليس فقط من أجل الحديث ولكن للغوص في جوهر الأشياء - في محاولة لإيجاد الحلول.
(…)
أيها السيّدات والسادة، إن التحكم في مصير المرء هو صراع دائم في حد ذاته لأي فرد. وبالنظر إلى تاريخ وجغرافية هذه المنطقة، أعتقد أنه من الآمن القول إن هذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لشعوب إقليم كوردستان. وهذا ما يخبرنا به الماضي، وكذلك هو الحاضر والمستقبل، التي يكتنفها عدم اليقين.
ما نعرفه هو أن الأمر استغرق وقتًا طويلاً لتحقيق مستوى الاستقلال الذاتي اليوم. ليس الوقت فقط. بل كان الثمن غالياً، حيث دفع الكثير من الناس حياتهم من أجل ذلك. ولكن مثل أي مكان آخر في العالم، فإن الحقوق والحريات اليوم لا تعطى على الإطلاق.
ما أقوله هو الاتي: لا تأخذوا الحكم الذاتي اليوم كأمر مسلم به، ومن أجل استدامته، فإن الوحدة هي أمر ضروري جدا.
في الواقع، وكما أوضحت أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي، فإن النظام الفيدرالي لا يقوى إلا بقوة الروابط بين مكوناته - ويتم تعزيز هذه الروابط من طريق المصالحة والتماسك المجتمعيين.
وفي حالة العراق، هذا يعني أن البلد يكون قوياً كلما كانت الروابط التي توحد شعوبه المتنوعة قوية. وغالبًا ما تكون هذه الشعوب المتنوعة بحاجة إلى مصالحة داخل المجتمع أيضًا.
الآن، إقليم كوردستان متنوع بطبيعته. فهو موطن لمجموعة واسعة من الشعوب واللغات والأديان. وقد تجسد احتضانه لهذا التنوع مؤخرًا وبشكل ملحوظ خلال الزيارة التاريخية للبابا فرانسيس.
يمكن للمرء أن يقول إن القوة والقدرة على الصمود اللافتة لإقليم كوردستان تنبع من هذا التنوع.
بل أن المرء يمكن أن يقول إن "الوحدة في التنوع" هي الوصفة التأسيسية التي سمحت لإقليم كوردستان بالوجود. وهذا هو بالتأكيد المبدأ الذي سيضمن مستقبله.
ونعم، التنوع السياسي موجود أيضًا في إقليم كوردستان. كما هو الحال في الكثير من البلدان الأخرى. في حين أن الكثير من هذه الديمقراطيات المتنوعة تبدو قوية ومستقرة اليوم، فقد تميز تاريخها أيضًا بالحروب الدموية والمعاناة.
وغني عن القول: إن إقليم كوردستان القوي هو الأفضل استعدادا وجهوزيةً لحماية مصالحه. وعلى العكس من ذلك، مع الانقسام يأتي الضعف.
كما أن إقليم كردستان القوي والموحد يقوّي العراق الاتحادي، ليس فقط على الصعيد المحلي ولكن أيضًا على الصعيد الدولي. القوة في الخارج تبدأ من القوة في الداخل.
(…)
أيها السيّدات والسادة، بصفتي سياسيًة أوروبيًة وعلى المستوى الوطني سابقا، يمكنني أن أخبركم، من تجربتي، أن الديمقراطية، وخاصة الديمقراطية ذات المستويات المتعددة من الحكم، هي عمل شاق.
والمجتمعات الديمقراطية المستدامة الحقيقية للغاية هي عكس المعجزات التي تحدث بين عشية وضحاها - فهي تتطلب صبرًا هائلاً واستعدادًا ثابتًا لتقديم التنازلات.
نفاد الصبر مفهوم بالطبع. أنا أعرف كل شيء عن ذلك. بل قد يكون أمراً مرغوب فيه من أجل تحريك الأشياء في اتجاه الصالح العام الأكبر.
لكن لا محالة من وجوب إعطاء العملية الديمقراطية الوقت لتترسخ.
وبينما يحدث هذا الأمر، يجب السماح للتفاعل الصحي بين المعارضة والحكومة وتشكيل الأحزاب والائتلافات بالعمل على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية.
وخلال كل هذا، يجب أن يكون الاهتمام النهائي للقيادة السياسية هو: خدمة مواطنيها. ويجب أن يكون التركيز على الحلول التي تمثل مصالح جميع الشعوب التي تعيش في إقليم كوردستان. فالحلول التي تخاطب الأغلبية فقط لا يمكن الدفاع عنها على المدى الطويل.
والآن، كما قلت: حتى مع تحقيق الوحدة، لا يمكن أبدًا اعتبار الوحدة أمرًا مسلماً به خشية أن تضيع. بل يجب أن يتم رعايتها بها باستمرار.
ويتضمن "عمل الإدامة" هذا التواصل المستمر على مستوى القاعدة الشعبية والحوار والإجراءات الملموسة التي توضح أنه يتم الاستماع إلى المجتمعات والمكونات في جميع الأوقات.
وعندما تُهَدَّد الوحدة بالانقسام، تقع على عاتق القيادة مسؤولية توجيه وقيادة التوعية، لتوحيد المصالح المتعارضة.
في ذات الوقت، تقع على عاتق كل مواطن مسؤولية الاعتراف والقبول بحقيقة أن الموازنة بين الآراء والمصالح المختلفة تتطلب حل وسط دائم، كما هو الحال في أي مجتمع متنوع.
توصف السياسة أيضًا بأنها " فن الممكن". وسواء أحببنا ذلك أم لا، فإن تقديم التنازلات هو السبيل لتسوية الخلافات. أنا لا أنكر أن التسوية يمكن أن نتذوقها فجأة كخيبة أمل. ولكن حبة التنازل المرُّة ستفتح في النهاية الباب أمام النجاح الدائم.
وبما أن السياسة محلية في نهاية المطاف، فمن الضروري ممارسة روح الوحدة والشراكة أولاً وقبل كل شيء على هذا المستوى. فالنظام المتوازن هو النظام الذي يتم فيه ضمان تقديم الخدمات بشكل كامل في جميع المجالات وفي جميع الأوقات - وبغض النظر عن التكوين السياسي الذي قد يكون في السلطة.
وبعد كل ما قلته، فمن الأهمية بمكان ان نميز ما بين الوحدة والتوحيد.
لمجرد أن مجموعةً ما يمكنها أن تتحد ككتلة واحدة، فهذا لا يعني أنه لا يمكن إجراء مناقشة داخلية نابضة بالحياة وسليمة، أو أنه لا يمكن الاستماع إلى عدد كبير من الأصوات المختلفة. بل على العكس. فإن تنوع الآراء هو مصدر للقوة والإثراء وليس تهديداً.
والشيء الذي يكتسب نفس القدر من الأهمية هو: ان الأفعال ابلغ من الأقوال. فللإعلانات والخطب المنمقة مكانها، ولكن في نهاية المطاف فالأمر كله يتعلق بإنجاز الأشياء.
ومن محاربة الفساد والنأي عن المصالح الحزبية الضيقة الى التحرك الجاد نحو توحيد البيشمركة والإصلاحات. أجل، رؤية البيشمركة لعام 2025 هي أحد أفضل وأوضح الأمثلة. إذ انها توقد المخيلة. لا ينبغي ان يبقى إقليم كردستان منقسماً بين "أخضر" و "أصفر". أو أي مسميات لونية في هذا الشأن.
لقد آن الأوان لتحقيق مصالحة حقيقية، وليسود الاستقرار السياسي.
وانتقل الى السيادة الوطنية، فمن الواضح وبشكل مؤلم أن الجغرافية لا تصب دوماً في مصلحة العراق، وبالتأكيد فإقليم كردستان ليس استثناءً. وبكلمة أخرى، أنتم تواجهون ظروفاً جيوسياسية فريدة. وهذه الحقيقة لوحدها ينبغي ان تكون سبباً كافياً لجعل المرء يفكر مرتان.
(…)
أيها السيّدات والسادة، من أجل ان تجرى الانتخابات في 10 تشرين الأول، فان العراق على مفترق طرق. ان اجراء عملية انتخابية تحظى بالمصداقية وذات مشاركة حرة وواسعة من شأنها المساعدة في توجيه دفة البلاد نحو مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً. وبالطبع، فأن نتائج هذه الانتخابات هي الأخرى لها أهمية عظيمة للعلاقات الحيوية بين بغداد وأربيل.
وفي الوقت نفسه، ان إقليم كردستان لديه خيار. ويمكنه أن يتوحد ويزيد من تعزيز احترامه للحقوق والحريات الأساسية وأن يحرز تقدماً مجدياً في مجال الأمن والإصلاح الاقتصادي اللذان طال انتظارهما وأن ينخرط في حوار رغم الخلافات الداخلية التي تبدو أحياناً مستعصية (انا اعترف بذلك).
أو...أو ربما يفشل في ترتيب بيته، ويخاطر في ضياع منجزاته.
(…)
أيها السيّدات والسادة، مؤخراً – برز من جديد نقاش بشأن إمكانية ان يكون هناك دستور إقليمي. الآن، فأن معظم الناس لن يشككوا في القيمة المضافة لمثل هكذا دستور.
إن لم أكن مخطئة، عُرِضَ مشروع أولي في عام 2009. وتلته بضع محاولات بيد انه تعطل في مراحل مختلفة بسبب انعدام التوافق السياسي.
والآن، اسمحوا لي أن أكون واضحة: ان كل ما تعنيه القيادة السياسية هو الشعب. وكذلك الدستور. فالأمر يتعلق بالناس وبحقوقهم وكيفية حماية حقوقهم. فهو يبين حدود صلاحيات السلطات. الدستور عبارة عن عقد اجتماعي.
وبالفعل، ومن المؤكد ان إعادة تفعيل هذه العملية سيتيح فرصة هامة لجميع المكونات والطوائف في إقليم كردستان لتتآزر.
فمن شأن ذلك أن يساعد على رأب الخلافات والمظالم وقبول الآخر - عند الاقتضاء - وأن يعتذر له وأن يحترم التاريخ الفريد لبعضهم البعض. فمن الممكن أن يساعد في التغلب على التنافس السياسي والتحزب فضلاً عن الجمود بين النخب الحاكمة.
ويمكن أن يوفر فرصة رائعة لخلق إحساس تطلعي بالفخر والاعتزاز.
وهو فرصة أيضا لتحديد السلطات والمسؤوليات المؤسساتية بوضوح. ان الغموض القانوني ضار على المستوى الاتحادي مثلما هو ضار في إقليم كردستان.
لذا: إذا اردتم ان تفعلوا ذلك، إعادة تفعيل العملية، فقوموا بها على نحو صحيح. الإرادة السياسية شرط أساسي. ان الوعود الفارغة او المنكوثة ستزيد من تصدع ثقة الجمهور ليس إلا. ولا تستهينوا بالسهولة التي يمكن ان يتعاظم بها الغضب.
ان الاقتتال والشقاق السياسيين هما آفتان سامتان - ومع ذلك، فهما موجودتان عند كل منعطف. فهل من المدهش ان الناس لا يؤمنون بأن العملية السياسية تخدمهم، او انها يمكن ان تحقق التغيير؟
ومرة أخرى، إذا اردتم ان تفعلوا ذلك، فقوموا به على النحو الصحيح.
ولا حاجة لكي اقول، ينبغي إن تتوافق الوثيقة النهائية مع الدستور الاتحادي للعراق.
ويمثل هذا تحدياً آخر، إذ ان الدستور الاتحادي يفتقر إلى توجيهات استرشادية واضحة. ففي الوقت الذي كتب فيه الدستور الاتحادي، كُرست المبادئ العامة في النص بينما ترك تنفيذها الى تشريع داعم لاحق يحدد ذلك.
ولكن بعد ستة عشر عاماً، لا يزال هذا الافتقار إلى التحديد يشكل النقاش بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان. إن التوصل إلى حلول دائمة أمر ملح. وإنني متيقنة من أننا يمكن أن نتفق جميعا على أن الوقت قد حان لكي يصبح العراق أكثر من مجموع مكونات.
(…)
أيها السيّدات والسادة، في الختام اسمحوا لي ان أؤكد مرة أخرى على أهمية ما تم إنجازه على يد شعوب إقليم كردستان في القرون الماضية.
والسؤال الآن: كيف يمكن إدامة وتوطيد هذه المنجزات؟!
وبينما تقف الأمم المتحدة إلى جانبكم، فمن المهم إدراك أنه - أولاَ وقبل كل شيء - أنتم جميعاً معنيون في هذا الأمر.
الوحدة في التنوع. المفتاح في ايديكم.
شكراً.