إحاطة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق السيدة جينين هينيس-بلاسخارت المقدمة الى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (كما قُدّمت)
نيويورك- 16 أيار2024
السيد رئيس مجلس الأمن،
السيدات والسادة أعضاء المجلس الموقرون،
في شهر شباط الماضي قدمت ما كنت أعتقد أنه آخر إحاطة علنية لي بشأن العراق. لذا فأنا بالطبع مسرورة بأن أحظى بامتياز أن أتوجه اليكم مرة أخرى قبل مغادرتي منصبي الحالي في وقت لاحق من الشهر الجاري.
سيدي الرئيس، لطالما شددت خلال الأعوام الماضية -مراراً وتكراراً- على تحديات العراق العديدة. والآن غالباً ما اضفت، في الوقت ذاته، أن العراق لديه فرصة عظيمة. وبالطبع، فإن أي فرصة هي واقعية بقدر واقعية الجهد المبذول لاغتنامها.
وكما ذكرت في إحاطاتي السابقة، أن هناك العديد من الخطوات المهمة والمبادرات الواعدة قد ظهرت. وقد كان ذلك جلياً خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية أكثر من أي وقت مضى، وعلى وجه الخصوص في مجالات تقديم الخدمات والإعمار.
كما يغتنم هذا البلد الفرص بالفعل في أماكن اخرى، على سبيل المثال، من خلال مكانته المحورية في المنطقة وما وراءها، وتعزيز البيئة الاستثمارية للبلد، والمباشرة بإصلاحات مالية واقتصادية، وخطط ادارة المياه وتخفيف الآثار البيئية والتكيف معها، وعلى سبيل المثال تقليل الاعتماد على الوقود المستورد.
ومراعاةً للوقت لن أخوض في التفاصيل، لكن يمكن لأعضاء المجلس الموقر وغيرهم أن يرجعوا إلى الإحاطات والتقارير الأخيرة، حيث قُدمت فيها معلومات إضافية.
وإجمالاً، فالصورة التي أود أن أصفها هي لعراق يبدو مختلفاً عن البلد الذي أُسست فيه بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق في البداية قبل نحو عشرين عاماً. حقاً فهو يبدو مختلفاً عن البلد الذي وصلت إليه في عام 2018. واليوم، نشهد، اذا جاز التعبير، عراقاً ناهضاً.
في الحقيقة إن العقود الماضية من عدم الاستقرار لازالت تؤثر على حاضر البلد، وفعلاً إن التحديات التي تواجهه متعددة، في ظل مؤسسات الدولة التي لا تزال هشة، ولكننا نعتقد حقاً أن الوقت قد حان للحكم على البلد على أساس التقدم المتحقق، وطي صفحة الصور الأكثر قتامة لماضي العراق.
ولا يعني هذا أن كل شيء هو في أحسن حال، بالطبع لا، فالثقة المفرطة لن تساعد أحداً، بل أن من شأنها أن تنكر المطالب المشروعة والمُحقّة بالتغيير والتي لا زالت تنتظر تلبيتها.
ورغم أن الحكومة تتصدى لآفات الفساد والفئوية والإفلات من العقاب والتدخل غير القانوني ووجود الجهات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة، فإن هذه الظواهر تمثل عقبات كبيرة ينبغي التغلب عليها.
والأمر نفسه ينطبق على مشاعر التهميش والإقصاء والتي تنتشر ضمن مكونات معينة وبين أوساطها، وفي حال تُركت هذه المشاعر دون معالجة، فإنها تنطوي على خطر تأجيج نيران التوتر ضمن المكونات وفيما بينها.
وقد يفيد الاستئثار بالسلطة أو السياسات العقابية شريحة واحدة من المجتمع أو المجتمعات المحلية على المدى القصير، لكن، في نهاية المطاف يخسر الجميع. وهذا ينطبق بشكل خاص في بلد لا يزال النزاع حيا في ذاكرته.
وضمن هذا السياق، تشكل الزيادة الأخيرة في عمليات الإعدام الجماعية غير المُعلنة (بحق أشخاص أدينوا بموجب قوانين مكافحة الإرهاب) مصدر قلق كبير.
كما أن هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به قبل تحقق صون الحقوق والحريات الأساسية لكافة العراقيين. واسمحوا لي أن أكون واضحة، مثل هذا العمل لا يعني الترويج لأي سلوك خاص محدد أو عدم احترام أي ثقافة أو دين، بل على العكس من ذلك تماماً.
وعلاوة على ذلك، يُتوقَّع أن يراعي أي عمل تشريعي واجبات البلد والتزاماته، بما في ذلك تلك الناشئة عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقع عليها العراق. وغني عن القول، إن حرية التعبير وعدم التمييز هما من الحقوق التي نصت عليها مثل تلك المعاهدات.
وعلاوة على ذلك فلا تزال العديد من النساء في العراق بانتظار أن يكون لهن مقعد على الطاولة. بينما تعاني أخريات، ممن تمكنَّ من الحصول على دور ما، في أغلب الأحيان من الإبعاد عن عمليات صنع القرار. ما يتبين من ذلك هو أن تمكين المرأة يجب أن يتجاوز الرمزية.
نعم، إن الحاجة إلى فضاء مدني فاعل ويتمتع بالتمكين والحماية، هو حاجة ملحة كما كانت في أي وقت مضى.
ولكني أكرر، إن عراق 2024 آخذ في التطور – وبسرعة.
وفي حين يصح القول أن المسار قُدُماً سيكون مثقلاً بالعقبات، إلا أننا نأمل بأن يتحقق في المستقبل المزيد من التقدم لكل العراقيين – أياً كانت انتماءاتهم أو معتقداتهم أو خلفياتهم أو أعراقهم.
ولكن كي يتحقق ذلك، يظل بالطبع من الضروري أن يعمل كافة زعماء العراق على وضع البلد على مسارات واضحة للنجاح.
سيدي الرئيس،
في إحاطتي السابقة، تناولت موضوع التنظيم الناجح للانتخابات المحلية العراقية في كانون الأول عام 2023. واليوم بوسعي أن أقول أن كافة مجالس المحافظات تقريباً قد تشكلت وتمارس مهامها.
ولكن هناك محافظتان – ديالى وكركوك – ما زالتا تشهدان أزمة حتى الآن. وبطبيعة الحال، ليس غريباً أن تطول المفاوضات السياسية، وهذا يحدث في مختلف أنحاء العالم.
ومع ذلك، ومع انقضاء خمسة أشهر الآن – دون وجود حل فوري في الأفق، فإن حقيقة وجود عقبات لتحقيق تسوية سياسية تماثل تلك التي شهدناها في ملفات أخرى، أمر يثير بعض القلق.
وكملاحظة منفصلة، بيد أنها ليست مختلفة تماماً: فقد أخفقت حتى الآن ستة أشهر من المفاوضات بشأن استبدال رئيس مجلس النواب العراقي في التوصل إلى نتيجة.
وفي حين ساهمت عدة عوامل في هذه الأزمة، فإنَ الانقسامات داخل "البيت السُني" لم تساعد في تسوية الأمور.
وفي هذه المرحلة، لا يسعني إلا أن أؤكد، ولأسباب متعددة، على أهمية اختيار رئيس لمجلس النواب.
ومع التصويت القادم للبرلمان الذي من المتوقع أن يجري يوم السبت المقبل، هناك أمل في أن تتم تسمية الرئيس الجديد لمجلس النواب عاجلاً.
ومن القضايا ذات الصلة التي لابد من الإشارة إليها هنا هي حقيقة أن المحكمة الاتحادية العليا في العراق يبدوا أنها تملأ وبشكل متزايد الفراغ الذي أوجدته السياسة المثيرة للانقسام.
وبطبيعة الحال، فأن سبل الانتصاف القانوني تعد أداة نافعة وسلمية لحل الخلافات.
بيد أن الحجم الهائل للقضايا الدستورية التي تنشأ عن العمليات السياسية الاعتيادية، والتي ينبغي بدلاً من ذلك أن تدفع السياسيين إلى حل خلافاتهم للتوصل إلى حلول، يشير حقاً إلى وجود توجه مقلق.
وبالانتقال إلى إقليم كردستان،
ومنذ آخر إحاطة قدمتها، بات المشهد السياسي في إقليم كردستان أكثر استقطاباً. وكما تعلمون، وبعد تأجيلات متعددة، فإن انتخابات الإقليم التي طال انتظارها تم تحديد موعدها في العاشر من شهر حزيران.
ولكن في 18 آذار، أعلن أحد الأحزاب الحاكمة وعلى نحوٍ غير متوقع قراره بعدم المشاركة في هذه الانتخابات. ولن أخوض في تفاصيل ما جرى لاحقاً، ولكن ما تجدر الإشارة إليه اليوم أنه هناك حاجة ماسة إلى انتخابات شفافة وذات مصداقية في الإقليم، تكون شاملة للجميع وقادرة على أن تنتج حسماً ويقيناً سياسيين.
إنَ المخاطر كبيرة -وبضمنها، وبشكل متزايد- ما يندرج في سياق شرعية مؤسسات إقليم كردستان. وفي الحقيقة، إذا ما قُدِرَ للمأزق الراهن أن يطول، فإن مستقبل الإقليم ذاته سيكون على المحك.
وإنني إذ أقول هذا، وبعد مناقشات مكثفة على مدى الأسابيع الماضية، والتي استرشدت بالحاجة إلى حل سريع وحاسم للخروج من هذا الجمود، فإننا نأمل الآن أن يتم الإعلان عن موعد نهائي، وبالتالي مُلزِم، لإجراء الانتخابات في القريب العاجل.
ومن المؤمل (أو الأفضل: من المتوقع) أن يتم الاقتراع بأقل قدر ممكن من التأخير، وفي كل الأحوال في موعدٍ لا يتجاوز أربعة أشهرٍ من الآن، وبوجود الكوتا الخاصة بتمثيل الأقليات.
وفيما يتعلق بقضاء سنجار، سيدي الرئيس، فقد مضت تسعُ سنواتٍ على تحرير المنطقة من تنظيم داعش.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أي شخص يذهب إلى سنجار اليوم يُلتَمسُ له العُذر إذا ما تصورَ أن الزمن قد توقف هناك إذ لاتزال المدينة تقبعُ تحت الركام.
وأن خطة العمل التي جرى تقديمها (بموجب اتفاق سنجار لعام 2020) بشأن الإدارة الموحدة، فضلاً عن هيكلية أمنية مستقرة، يتراكم عليها المزيد من الغبار مع انقضاء كل عام.
ستصادف هذا الصيف ذكرى كئيبة، ألا وهي مرور عشر سنوات على ارتكاب تنظيم "داعش" للإبادة الجماعية ضد الأيزيديين.
وفي هذه المرحلة، لا يسعني إلاّ أن أُعرب عن أملي في ألاّ تُبدد الذكرى العاشرة القادمة، بل أن تغتنمها كافة السلطات والجهات الفاعلة والأطراف المعنية لتوحيد الصف والارتقاء إلى المستوى المطلوب لتحقيق الهدف الوحيد المتمثل في خدمة أهل سنجار.
هنالك حلول، ولكن لو توفرت رغبة أصيلة بجعلها حقيقة واقعة.
وبذات القدر من الأهمية، يتعين ضمان مواصلة السعي لتحقيق مبدأ المساءلة، لاسيما في هذا الوقت الذي تقوم فيه بعثة "يونيتاد" باختتام ولايتها في البلاد.
وعند الحديث بشكلٍ أوسع نطاقاً، فإن الأشخاص الذين لحقهم الضرر والنزوح من جراء النزاع يستحقّون إعادة بناء حياتهم. ويتوجب أن يشمل ذلك العودة إلى المناطق التي تعذّر الوصول إليها حتى الآن بسبب النفوذ الذي تمارسه الجهات المسلحة.
ولتوضيح ما لا لبس فيه: فإن هذا الأمر لا ينطبق على سنجار فحسب، وإنما على مناطق أخرى كذلك، مثل جرف الصخر، على سبيل المثال لا الحصر.
سيدي الرئيس، إذا تأملنا بنظرة أوسع البيئة الأمنية في المنطقة: فكما تعلمون جيداً، لا تزال حالة عدم الاستقرار مستمرة.
والجانب السار هنا هو أن الحكومة العراقية قد أظهرت تصميماً راسخاً على الحيلولة دون انجرار البلاد إلى صراعٍ أوسع نطاقاً. وكما قال السيد رئيس مجلس الوزراء: إن ذلك يعني ممارسة ضغوط خارجية وداخلية لتجنب التصعيد.
ومن خلال هذه الجهود، يسعدني أن أقول إن العراق تسوده في الوقت الحالي بيئة أمنية أكثر استقراراً. ومع ذلك، ونظراً للمشهد المعقد في البلاد والمتمثل بوجود جهات مسلحة تعمل خارج سلطة الدولة، بالإضافة الى الضغوط الإقليمية الشديدة، فإن الوضع لا يزال قابلاً للاشتعال.
وبعبارة أخرى، ان خطر سوء التقدير لايزال عالي جداً.
وفيما يتعلق بعودة المواطنين العراقيين من شمال شرق سوريا، يسرّني أن أبلّغكم أن العراق مستمرٌ في جهوده الجديرة بالثناء. وفيما أقول ذلك، يبقى الوقت هو جوهر المسألة. ولذلك أودّ أن أعرب عن أملي في أن تزداد حالات العودة في أقرب وقت.
وفي هذا السياق، اسمحوا لي - مرة أخرى - أن أؤكد على أن قتال الأمس ضد "داعش" قد يؤدي إلى تفاقم مشاكل الغد. مشاكل لن تتوقف عند حدود العراق.
ومن ثمّ، فإن أي حكومة أخرى لديها مواطنين في مخيم الهول و/أو المرافق الأخرى في شمال شرق سوريا يقع على عاتقها واجب التصرّف.
لعلني أكرر ما سبق أن قلته، ولكن إبقاء الناس إلى أجل غير مسمى في مثل هذه الظروف المُقيِّدة والبائسة يخلق في نهاية المطاف مخاطر من ناحية الحماية والأمن، أكبر من تلك التي تنطوي عليها إعادتهم بطريقة قابلة للسيطرة.
سيدي الرئيس، سأتناول نقطة أخيرة بشأن قضية المفقودين من الكويتيين ورعايا الدول الأخرى، والممتلكات الكويتية المفقودة، بما في ذلك الأرشيف الوطني.
كما ذكرت في المرة السابقة، ثمّة حاجة لإحراز تقدّمٍ بوتيرة أسرع. ويجب أن يتضمن ذلك التغلب على العقبات البيروقراطية، ومتابعة القضايا العالقة بشكل فوري.
بعبارة أخرى، هناك حاجة ماسة إلى زيادة الأنشطة الرامية إلى تحديد مواقع الدفن وإجراء المزيد من عمليات التنقيب فيها. ومن الضروري أيضا إعادة تفعيل اللجنة المشتركة المعنية بالممتلكات الكويتية المفقودة. إن الأمر بسيط للغاية، وهو أن وتيرة البحث عن الممتلكات وإعادتها، بما في ذلك الأرشيف الوطني، بطيئة للغاية في الوقت الحالي.
سيدي الرئيس، في الختام، اسمحوا لي أن أقول إنه خلال مدة عملي كممثلة خاصة، بدا في بعض الأحيان أن المجتمع العراقي والإطار السياسي كانا على وشك التداعي.
والآن، ليس بوسعنا أن نتوقع اختفاء الظروف التي سمحت بهذا الاختلال بين عشية وضحاها.
فالتعامل مع كلٍ من إرث الماضي وتحديات الحاضر العديدة سيستغرق وقتاً، وكذلك، سواء أحببنا ذلك أم لا، فلا شيءَ منيعٌ ضد التغيُّر.
ومع ذلك، ففي حين وقفت البلاد على شفير الهاوية في مرات عديدة، إلاّ أنها وجدت طريقاً للتراجع عن تلك الهاوية لمواصلة مسيرتها إلى الأمام.
وكما أوضحت في وقتٍ سابق، هناك تحديات مستمرة وخطيرة، لكن أفق العراق يزخر بالفرص، كذلك تحفل البلاد بالأشخاص المستعدين لاغتنامها والراغبين بذلك.
ومما لا شك فيه، سيدي الرئيس، أنّ الأثر الذي تركه هذا البلد وشعبه في نفسي، سيبقى دائماً.
لذا أقول مرة أخرى: عاش العراق
شكرا سيدي الرئيس